بيروت: مدينة بلا أشجار وهواء وأطفالها بلا حقوق

 
Libanon: Keine grüne Zone in Beirut, 17. Mai 2012; Copyright: DW/Dareen Al Omari

 البيان نيوز - تعاني من تآكل المساحات الخضراء إثر اجتياح البناء من كل الجهات. وأصبحت المدينة التي تغنى بها الشعراء أشبه بمجمع إسمنتي، مدينة بلا هواء أو عاصمة بلا هوية، كما يصفها أهلها بعدما ضاقت بهم "مساحة السماء والأشجار".

تركض الطفلة ذات خصلات الشعر الكستنائي بسرعة نحو الباب الحديدي الأسود، حيث يقف الباعة بالقهوة والترمس والفول والألعاب وتأجير الدراجات الهوائية. من هنا، ستدخل إلى جنتها الهادئة السحرية. حديقة "الصنائع" الواقعة في وسط بيروت هي بقعة خضراء شبه يتيمة في مدينة يجتاحها البناء من كل الجهات.
الطفلة حفظت وجهتها غيبا في قلب الحديقة، ستمر بجانب أشجار الكينا العملاقة وشجيرات الزعرور بحبيباتها الحمراء الصغيرة، وأشجار الجكرندا التي تنبت أزهارها البنفسجية في فصل الربيع. تصل إلى نقطة تجمع الطيور البرية وتشارك الأولاد رمي الخبز المبلل بالماء إلى الحمام. نجحت الحديقة في أن تشكل ملتقى لعديد من الأطفال الآتين من المناطق القريبة والبعيدة. أطفال العاصمة مطلبهم بسيط، بعض السكينة وقليل من المساحات التي لا حدود لها.  في وسط الحديقة بركة ماء كبيرة جداً، جفت مياه نافورتها وغادرها البط، لتكون شاهدا على النقص الحاد الذي تعاني منه الحديقة في الصيانة والتجهيزات. لكن الحديقة مع ذلك، تأبى إلا أن تبقى ملجأ لأجيال العاصمة التي تغير جلدها يوميا.
"الصنائع" حديقة شبه يتيمة في العاصمة
ترى الحاجة أم عبد الله التي تزور مع أحفادها حديقة "الصنائع" بانتظام في أيام العطل، أن تقلص المساحات الخضراء في بيروت يعتبر نذير شؤم يهدد بكارثة بيئية تحل على المدينة. لا مكان آخر تذهب إليه الحاجة ككثير من العائلات البيروتية. الحديقة اليتيمة هي المكان الوحيد الذي ينعم به أحفادها باللون الأخضر الذي محاه اللون الإسمنتي الرمادي من المدينة. تقول الحاجة لموقع DW  عربية: "من غير المسموح السكوت عن قضم المساحات الخضراء"، وتؤكد أن بيروت الأمس التي تحفظها بتفاصيلها هي غريبة عن بيروت اليوم التي فقدت هويتها.

Libanon: Keine grüne Zone in Beirut (“Sanayeh” Garden, One of the Rare Public Areas for Children), 17. Mai 2012; Copyright: DW/Dareen Al Omari حديقة الصنائع في قلب بيروت المكان شبه الوحيد الذي يلجأ إليه الأطفال
لا تعرف رانيا أين تتنزه مع ولدها الذي يبلغ سنواته الثلاث. يصيبها اليأس وتقع في الحيرة، كلما أرادت الخروج من باب المنزل. سؤال وحيد يتكرر في رأسها بلا إجابة "أين آخذه؟". لا حدائق أو مساحات عامة في المنطقة التي تعيش بها العائلة. يتجولان معا كالتائهين في الشوارع والأزقة التي تحولت إلى ورش إعمار، تجتاحها الجرافات من جهة والسيارات التي تفوق أعداد البشر في العاصمة من جهة أخرى. ينتهي "المشوار" سريعا، يعود الطفل إلى منزله سجينا بين أربعة جدران.
"أحلم بفيئ شجرة يلعب تحتها ولدي"، تقول رانيا لموقع DW  عربية متسائلة: "هل ما أطلبه كثير.. كيف نربي أجيالا في عاصمة لا توفر أدنى شروط حقوق الطفل؟".
العاصمة بخيلة، عدوانية مع أطفالها وغير إنسانية. هذا ما يجمع عليه معظم اللبنانيين. فاستنشاق الهواء العليل والأوكسجين النقي المنبعث من الأشجار والنباتات رفاهية. تصفية الذهن وإراحة الأعصاب رفاهية، التخلص من الاكتئاب والتوتر بأبسط الطرق التي توفرها مدن أخرى رفاهية، ليست من حق الطفل اللبناني.
المساحات العامة الخضراء: "رفاهية" مفقودة
يشرح المخطط الحضري فادي شيا وجهة نظره فيما يخص فوائد "المساحات العامة الخضراء". ويقدم سلسلة اقتراحات مستنداً إلى دراسة وثقها في كتاب "عند حافة المدينة" الذي يروي سيرة حرش بيروت، المساحة العامة الأكبر في بيروت والموصدة أمام سكان المدينة. ويشير شيا إلى دور القطاع العام في وضع سياسات حضرية ذات أسس متينة، ومنها: اعتماد الحكومة والبلديات مرسوم قانون تتعهد فيه بعدم تعريض المساحات العامة الخضراء إلى أي أذى، استهداف البلديات نسب استملاك طموحة منها وفقاً لجدول زمني محدد، وتخطيط نماذج شبكية على نطاق المدن، واعتماد المسابقات العامة لتشجيع طرح بدائل لفهم وتطوير العلاقات بين المواطنين والمدينة.
ويؤكد شيا على ضرورة تطبيق نموذج المخطط التوجيهي لفرض مساحات خضراء إلزامية، وتطبيق قانون البناء وتعديله ليوفر حوافز للقطاع الخاص لاستحداث مساحات خضراء شبه عامة. ويتطرق شيا إلى دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والتعاون مع القطاع العام لتعزيز مفهوم الأماكن العامة. كما يعتبر أن العمل مع البلديات أمر هام لوضع تصور ومخطط توفير مساحات عامة على جدول أعمال السياسات والبرامج الانتخابية، والعمل مع الحكومة لتحويل المواقع الحضرية المتدهورة والزائلة إلى مساحات عامة خضراء.

Libanon: Keine grüne Zone in Beirut 8“Sanayeh Graden” the Lung of the City lacks maintenance and equipments), 17. Mai 2012; Copyright: DW/Dareen Al Omari بالرغم من أن الصنائع الحديقة شبه الوحيدة في المدينة إلا أنها مهملة
"بيروت ليست مدينة صديقة للأطفال"
هذه المطالب تبدو ملحة لتوفير مساحات عامة خضراء، خاصة بعد أن أظهرت دراسة قامت بها الجامعة الأميركية في بيروت أن المعدل السنوي لنسبة غاز "ديوكسيد النيتروجين" يبلغ 58 ميكروغراماً في المتر المكعب، بينما المعدل الأقصى الذي تسمح به منظمة الصحة العالمية هو 40 ميكروغراماً في المتر المكعب. أما الجزيئات التي تنجم عن غبار الشوارع وغيرها، فقد تخطت المستويات المقبولة.
"بيروت ليست مكانا صديقا للأطفال"؟ هذا رأي عمر وهو أب لطفلين. ويتساءل عمر في حديث لموقع DW عربية بالقول: "كيف تكون بيئة حاضنة للأطفال إذا كانت مساحاتها الخضراء هي الأدنى في العالم؟". أما  "حرش بيروت"، فهو المكان الأخضر العام الوحيد، ولكن لا يدخله إلا "المحظوظون". ويصفهم عمر بأولئك الذين يمتلكون رخصة قادرة على استيفاء شروط الدخول كأن لا يكون سن "المتنزّه" أقل من ثلاثين عاماً. لذا على الطفلين، أن ينتظرا ثلاث سنوات إضافية حتى يبلغ والدهما الثلاثين من عمره، ويتمكن حينها من إدخالهما للتنزه في الحرش.
تتذمر هبة بدورها من العيش في العاصمة. هي على حافة اختناق وشيك والسبب ترده إلى أن أصغر مساحة في العاصمة يتم استغلالها وتحويلها إلى ورش إعمار لتشييد مبان شاهقة تحجب النور والهواء. هي لم تصبح أماً بعد، ولكن الأمر يشكل تحديا لها، إذا قررت إنجاب أطفال في مدينتها. بيروت "قبيحة" بعد أن باتت غابة من الإسمنت الرمادي، هكذا تصفها.
هبة لا تريد لأطفالها أن يكبروا في مجتمع استهلاكي، تنعدم فيه الأمكنة الطبيعية التي يمكن اصطحاب الأطفال إليها، ويوفر لهم بدلا من ذلك فسحة في مجمع تجاري زرعت فيه تمويها، نباتات بلاستيكية مزيفة.  تريد لهم ما هو أبسط من ذلك، كأن يلعبوا بين الأشجار ويسمعوا زقزقة العصافير. ستبحث ربما عن مدينة أخرى تصبح فيها أماً، مدينة تحب أطفالها أكبر مما تحبهم بيروت، هذا ما تقوله هبة.

0 ارسل تعليقا

إرسال تعليق
Powered by Blogger | Big News Times Theme by Basnetg Templates

Latest News

>> <<

  • Recent Posts
  • Comments

    Blog Archive

    Followers

    محليات
    You are here : Home »

    Popular Posts